فصل: تفسير الآية رقم (16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏2 - 3‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏

لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد، صلوات الله وسلامه عليه، عطف بذكر موسى عبده

وكليمه ‏[‏عليه السلام‏]‏ أيضًا، فإنه تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام وبين ذكر التوراة والقرآن؛ ولهذا قال بعد ذكر الإسراء‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ‏}‏ يعني التوراة ‏{‏وَجَعَلْنَاهُ‏}‏ أي الكتاب ‏{‏هُدًى‏}‏ أي هاديًا ‏{‏لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا‏}‏ أي لئلا تتخذوا ‏{‏مِنْ دُونِي وَكِيلا‏}‏ أي وليًا ولا نصيرًا ولا معبودًا دوني؛ لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ تقديره‏:‏ يا ذرية من حملنا مع نوح‏.‏ فيه تهييج وتنبيه على المنة، أي‏:‏ يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة، تشبهوا بأبيكم، ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف‏:‏ أن نوحًا، عليه السلام، كان يحمد الله ‏[‏تعالى‏]‏ على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله‏;‏ فلهذا سمي عبدًا شكورًا‏.‏

قال‏:‏ الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن أبي حُصَين، عن عبد الله بن سنان، عن سعد بن مسعود الثقفي قال‏:‏ إنما سمي نوح عبدًا شكورًا؛ لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بُرْدَة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها‏"‏‏.‏

وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة، به‏.‏

وقال مالك، عن زيد بن أسلم‏:‏ كان يحمد الله على كل حال‏.‏

وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أنا سيد الناس يوم القيامة -بطوله، وفيه -‏:‏ فيأتون نوحًا فيقولون‏:‏ يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك‏"‏ وذكر الحديث بكماله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 8‏]‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي‏:‏ تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوًا كبيرًا، أي‏:‏ يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 66‏]‏ أي‏:‏ تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا‏}‏ أي‏:‏ أولى الإفسادتين ‏{‏بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ سلطنا عليكم جندًا من خلقنا أولي بأس شديد، أي‏:‏ قوة وعدة وسلطة شديدة ‏{‏فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ‏}‏ أي‏:‏ تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم، أي‏:‏ بينها ووسطها، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا ‏{‏وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا‏}‏

وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم‏:‏ من هم‏؟‏ فعن ابن عباس وقتادة‏:‏ أنه جالوت الجَزَريّ وجنوده، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك‏.‏ وقتل داود جالوت؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏

وعن سعيد بن جبير‏:‏ أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده‏.‏ وعنه أيضًا، وعن غيره‏:‏ أنه بختنصر ملك بابل‏.‏

وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال، إلى أن ملك البلاد، وأنه كان فقيرًا مقعدًا ضعيفًا يستعطي الناس ويستطعمهم، ثم آل به الحال إلى ما آل، وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس، فقتل بها خلقًا كثيرًا من بني إسرائيل‏.‏

وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثًا أسنده عن حذيفة مرفوعًا مطولا وهو حديث موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث‏!‏ والعجب كل العجب كيف راج عليه مع إمامته وجلالة قدره‏!‏ وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي، رحمه الله، بأنه موضوع مكذوب، وكتب ذلك على حاشية الكتاب‏.‏

وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها؛ لأن منها ما هو موضوع، من وضع ‏[‏بعض‏]‏ زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحًا، ونحن في غُنْيَة عنها، ولله الحمد‏.‏ وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم‏.‏ وقد أخبر الله تعالى أنهم لما بغوا وطغوا سلط الله عليهم عدوهم، فاستباح بَيْضَتَهم، وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم، جزاء وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد؛ فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء‏.‏

وقد روى ابن جرير‏:‏ حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال‏:‏ سمعت سعيد بن المسيب يقول‏:‏ ظهر بُختنَصَّر على الشام، فخرب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشق فوجد بها دمًا يغلي على كِبًا، فسألهم‏:‏ ما هذا الدم‏؟‏ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر‏.‏ قال‏:‏ فقتل على ذلك الدم سبعين ألفًا من المسلمين وغيرهم، فسكن‏.‏

وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهذا هو المشهور، وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة، وأخذ معه خلقًا منهم أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها‏.‏ ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه، لجاز كتابته وروايته، والله أعلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا‏}‏ أي‏:‏ فعليها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ المرة الآخرة أي‏:‏ إذا أفسدتم المرة الثانية وجاء أعداؤكم ‏{‏لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يهينوكم ويقهروكم ‏{‏وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ‏}‏ أي بيت المقدس ‏{‏كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ في التي جاسوا فيها خلال الديار ‏{‏وَلِيُتَبِّرُوا‏}‏ أي‏:‏ يدمروا ويخربوا ‏{‏مَا عَلَوْا‏}‏ أي‏:‏ ما ظهروا عليه ‏{‏تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فيصرفهم عنكم ‏{‏وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا‏}‏ أي‏:‏ متى عدتم إلى الإفساد ‏{‏عُدْنَا‏}‏ إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال، ولهذا قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ مستقرًا ومحصرًا وسجنًا لا محيد لهم عنه‏.‏

قال ابن عباس ‏[‏رضي الله عنهما‏]‏‏:‏ ‏{‏حَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ سجنًا‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ يحصرون فيها‏.‏ وكذا قال غيره‏.‏

وقال الحسن‏:‏ فراش ومهاد‏.‏

وقال قتادة‏:‏ قد عاد بنو إسرائيل، فسلط الله عليهم هذا الحي، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 10‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏

يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، بأنه يهدي لأقوم الطرق، وأوضح السبل ‏{‏وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ به ‏{‏الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ‏}‏ على مقتضاه ‏{‏أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة‏.‏

‏{‏وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ ويبشر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن ‏{‏لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا‏}‏

يخبر تعالى عن عجلة الإنسان، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله ‏{‏بِالشَّرِّ‏}‏ أي‏:‏ بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 11‏]‏، وكذا فسره ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وقد تقدم في الحديث‏:‏ ‏"‏لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم، أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها‏"‏‏.‏

وإنما يحمل ابن آدم على ذلك عجلته وقلقه؛ ولهذا قال تعالى ‏{‏وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا‏}‏

وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس -رضي الله عنهما- هاهنا قصة آدم، عليه السلام، حين همّ بالنهوض قائمًا قبل أن تصل الروح إلى رجليه، وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه، فلما وصلت إلى دماغه عطس، فقال‏:‏ الحمد لله‏.‏ فقال الله‏:‏ يرحمك ربك يا آدم‏.‏ فلما وصلت إلى عينيه فتحهما، فلما سرت إلى أعضائه وجسده جعل ينظر إليه ويعجبه، فهمّ بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع وقال‏:‏ يا رب عجل قبل الليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا‏}‏

يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام، فمنها مخالفته بين الليل والنهار، ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصناعات والأعمال والأسفار، وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك ‏{‏وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ‏}‏ فإنه لو كان الزمان كله نسقًا واحدًا وأسلوبًا متساويًا لما عرف شيء من ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71 -73‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 61، 62‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 80‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يُكَوِّرُ‏}‏ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 37، 38‏]‏‏.‏

ثم إنه تعالى جعل لليل آية، أي‏:‏ علامة يعرف بها وهي الظلام وظهور القمر فيه، وللنهار علامة، وهي النور وظهور الشمس النيرة فيه، وفاوت بين ضياء القمر وبرهان الشمس ليعرف هذا من هذا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لآيَاتٍ‏}‏ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5، 6‏]‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏

قال ابن جُرَيْج، عن عبد الله بن كثير في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏ قال‏:‏ ظلمة الليل وسُدفة النهار‏.‏

وقال ابن جريج عن مجاهد‏:‏ الشمس آية النهار، والقمر آية الليل ‏{‏فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ‏}‏ قال‏:‏ السواد الذي في القمر، وكذلك خلقه الله تعالى‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، والقمر آية الليل، والشمس آية النهار ‏{‏فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ‏}‏ السواد الذي في القمر‏.‏

وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة‏:‏ أن ابن الكَوَّاء سأل ‏[‏أمير المؤمنين‏]‏ علي ابن أبي طالب فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، ما هذه اللطخة التي في القمر‏؟‏ فقال‏:‏ ويحك أما تقرأ القرآن‏؟‏ ‏{‏فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ‏}‏ فهذه محوه‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ‏}‏ كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه، وجعلنا آية النهار مبصرة، أي‏:‏ منيرة، خلق الشمس أنور من القمر وأعظم‏.‏

وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ‏}‏ قال‏:‏ ليلا ونهارًا، كذلك خلقهما الله، عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 14‏]‏

‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏

يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ وطائره‏:‏ هو ما طار عنه من عمله، كما قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد‏:‏ من خير وشر، يُلزم به ويجازى عليه ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 5، 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 17، 18‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 10 -14‏]‏، قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 16‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏‏.‏

والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه، قليله وكثيره، ويكتب عليه ليلا ونهارًا، صباحًا ومساء‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهِيعة، عن أبى الزبير، عن جابر‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لَطَائر كل إنسان في عنقه‏"‏‏.‏ قال ابن لهيعة‏:‏ يعني الطيرة‏.‏

وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث، غريب جدًا، والله أعلم‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏}‏ أي‏:‏ نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة، إما بيمينه إن كان سعيدًا، أو بشماله إن كان شقيًا ‏{‏مَنْشُورًا‏}‏ أي‏:‏ مفتوحًا يقرؤه هو وغيره، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره ‏{‏يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13 -15‏]‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ أي‏:‏ إنك تعلم أنك لم تظلم ولم يكتب عليك غير ما عملت؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك، ولا ينسى أحد شيئًا مما كان منه، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ إنما ذكر العنق؛ لأنه عضو لا نظير له في الجسد، ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه، كما قال الشاعر‏:‏‏}‏‏.‏

اذهب بها اذهب بها *** طوقتها طوق الحمامة

قال قتادة، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا عَدْوَى ولا طيرَة وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه‏"‏‏.‏ كذا رواه ابن جرير‏.‏

وقد رواه الإمام عبد بن حميد، رحمه الله، في مسنده متصلا فقال‏:‏ حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏طير كل عبد في عنقه‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله، حدثنا ابن لهيعة، حدثني يزيد‏:‏ أن أبا الخير حدثه‏:‏ أنه سمع عقبة بن عامر ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ يحدث، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة‏:‏ يا ربنا، عبدك فلان، قد حبسته‏؟‏ فيقول الرب جل جلاله‏:‏ اختموا له على مثل عمله، حتى يبرأ أو يموت‏"‏‏.‏ إسناده جيد قوي، ولم يخرجوه‏.‏

وقال مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏}‏ قال‏:‏ عمله‏.‏ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ قال‏:‏ نخرج ذلك العمل ‏{‏كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا‏}‏ قال معمر‏:‏ وتلا الحسن البصري ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 17‏]‏ يا ابن آدم، بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة كتابًا تلقاه منشورًا ‏{‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ قد عدل -والله -عليك من جعلك حسيب نفسك‏.‏ هذا من حسن كلام الحسن، رحمه الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏

يخبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق واقتفى آثار النبوة، فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه ‏{‏وَمَنْ ضَلَّ‏}‏ أي‏:‏ عن الحق، وزاغ عن سبيل الرشاد، فإنما يجني على نفسه، وإنما يعود وبال ذلك عليه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ أي‏:‏ لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 18‏]‏‏.‏

ولا منافاة بين هذا وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏، وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏، فإن الدعاة عليهم إثم ضلالهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك، ولا يحملوا عنهم شيئًا‏.‏ وهذا من عدل الله ورحمته بعباده‏.‏

وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا‏}‏ إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8، 9‏]‏، وكذا قوله ‏[‏تعالى‏]‏‏:‏ ‏{‏وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدًا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه، ومن ثم طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت مقحمة في صحيح البخاري عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏‏.‏

حدثنا عبيد الله بن سعد، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كَيْسَان، عن الأعرج بإسناده إلى أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اختصمت الجنة والنار‏"‏ فذكر الحديث إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وأما الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحدًا، وأنه ينشئ للنار خلقًا فيلقون فيها، فتقول‏:‏ هل من مزيد‏؟‏ ثلاثا، وذكر تمام الحديث‏.‏

فإن هذا إنما جاء في الجنة لأنها دار فضل، وأما النار فإنها دار عدل، لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه وقيام الحجة عليه‏.‏ وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة وقالوا‏:‏ لعله انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري من حديث عبد الرزاق عن مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تحاجت الجنة والنار‏"‏ فذكر الحديث إلى أن قال‏:‏ ‏"‏فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه، فتقول‏:‏ قط، قط، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدًا، وأما الجنة فينشئ الله لها خلقًا‏"‏‏.‏ بقي هاهنا مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى، فيها قديمًا وحديثًا وهي‏:‏ الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار، ماذا حكمهم‏؟‏ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف، ومن مات في الفَتْرة ولم تبلغه الدعوة‏.‏ وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا ذاكرها لك بعون الله ‏[‏تعالى‏]‏ وتوفيقه ثم نذكر فصلا ملخصًا من كلام الأئمة في ذلك، والله المستعان‏.‏

فالحديث الأول‏:‏ عن الأسود بن سَريع‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أربعة يحتجون يوم القيامة‏:‏ رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول‏:‏ رب، قد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول‏:‏ رب، قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهَرَمُ فيقول‏:‏ رب، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا،وأما الذي مات في الفترة فيقول‏:‏ رب، ما أتاني لك رسول‏.‏ فيأخذ مواثيقهم ليُطِعنّه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا‏"‏‏.‏

وبالإسناد عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبى هريرة، مثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره‏:‏ ‏"‏من دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يسحب إليها‏"‏‏.‏

وكذا رواه إسحاق بن راهويه، عن معاذ بن هشام، ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد، من حديث حنبل بن إسحاق، عن علي بن عبد الله المديني، به وقال‏:‏ هذا إسناد صحيح، وكذا رواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أربعة كلهم يدلي على الله بحجة‏"‏ فذكر نحوه‏.‏

ورواه ابن جرير، من حديث مَعْمَر، عن همام، عن أبي هريرة، فذكره موقوفًا، ثم قال أبو هريرة‏:‏ اقرءوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا‏}‏‏.‏ وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة موقوفًا‏.‏

الحديث الثاني‏:‏ عن أنس بن مالك‏:‏ قال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا الربيع، عن يزيد بن أبان قال‏:‏ قلنا لأنس‏:‏ يا أبا حمزة، ما تقول في أطفال المشركين‏؟‏ فقال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لم يكن لهم سيئات فيعذبوا بها فيكونوا من أهل النار، ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من ملوك أهل الجنة هم من خدم أهل الجنة‏"‏‏.‏

الحديث الثالث‏:‏ عن أنس أيضًا‏:‏ قال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا أبو خَيْثَمَةَ، حدثنا جرير، عن لَيْث، عن عبد الوارث، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يؤتى بأربعة يوم القيامة‏:‏ بالمولود، والمعتوه، ومن مات في الفَتْرَة، والشيخ الفاني الهرم، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار‏:‏ أبرز‏.‏ ويقول لهم‏:‏ إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه‏.‏ قال‏:‏ فيقول من كتب عليه الشقاء‏:‏ يا رب، أنى ندخلها ومنها كنا نفر‏؟‏ قال‏:‏ ومن كتبت عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعًا، قال‏:‏ فيقول الله تعالى‏:‏ أنتم لرسلي أشد تكذيبًا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة، وهؤلاء النار‏"‏‏.‏ وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار، عن يوسف بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد، بإسناده مثله‏.‏

الحديث الرابع‏:‏ عن البراء بن عازب، رضي الله عنه‏:‏ قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أيضًا‏:‏ حدثنا قاسم بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله‏.‏ -يعني ابن داود- عن عمر بن ذر، عن يزيد بن أمية، عن البراء قال‏:‏ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين قال‏:‏ ‏"‏هم مع آبائهم‏"‏‏.‏ وسئل عن أولاد المشركين فقال‏:‏ ‏"‏هم مع آبائهم‏"‏‏.‏ فقيل‏:‏ يا رسول الله، ما يعملون‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الله أعلم بهم‏"‏‏.‏ ورواه عمر بن ذر، عن يزيد بن أمية، عن رجل، عن البراء، عن عائشة، فذكره‏.‏

الحديث الخامس‏:‏ عن ثوبان‏:‏ قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده‏:‏ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا ريحان بن سعيد، حدثنا عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم عظَّم شأن المسألة، قال‏:‏ ‏"‏إذا كان يوم القيامة، جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم، فيقولون‏:‏ ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم‏:‏ أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظًا وزفيرًا، فرجعوا إلى ربهم فيقولون‏:‏ ربنا أخرجنا -أو‏:‏ أجرنا- منها، فيقول لهم‏:‏ ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني‏؟‏ فيأخذ على ذلك مواثيقهم‏.‏ فيقول‏:‏ اعمدوا إليها، فادخلوها‏.‏ فينطلقون حتى إذا رأوها فَرِقوا ورجعوا، فقالوا‏:‏ ربنا فَرِقنا منها، ولا نستطيع أن ندخلها فيقول‏:‏ ادخلوها داخرين‏"‏‏.‏ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردًا وسلامًا‏"‏‏.‏ ثم قال البزار‏:‏ ومتن هذا الحديث غير معروف إلا من هذا الوجه، لم يروه عن أيوب إلا عباد، ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكره ابن حبان في ثقاته، وقال يحيى بن معين والنسائي‏:‏ لا بأس به، ولم يرضه أبو داود‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به‏.‏

الحديث السادس‏:‏ عن أبي سعيد- سعد بن مالك بن سنان الخدري‏:‏ قال الإمام محمد بن يحيى الذُّهَلي‏:‏ حدثنا سعيد بن سليمان، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الهالك في الفترة والمعتوه والمولود‏:‏ يقول الهالك

في الفترة‏:‏ لم يأتني كتاب، ويقول المعتوه‏:‏ رب، لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرًا ولا شرًا، ويقول المولود‏:‏ رب لم أدرك العقل فترفع لهم نار فيقال لهم‏:‏ ردوها‏"‏، قال‏:‏ فيردها من كان في علم الله سعيدًا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل، فيقول‏:‏ إياي عصيتم، فكيف لو أن رسلي أتتكم‏؟‏‏"‏‏.‏ وكذا رواه البزار، عن محمد بن عمر بن هَيَّاج الكوفي، عن عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، به ثم قال‏:‏ لا يعرف من حديث أبي سعيد إلا من طريقه، عن عطية عنه، وقال في آخره‏:‏ ‏"‏فيقول الله‏:‏ إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب‏؟‏‏"‏

الحديث السابع‏:‏ عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه‏:‏ قال هشام بن عَمَّار ومحمد بن المبارك الصوري حدثنا عمر بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني، عن معاذ بن جبل، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيرًا‏.‏ فيقول الممسوخ‏:‏ يا رب، لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني -وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك- فيقول الرب عز وجل‏:‏ إني آمركم بأمر فتطيعوني‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيقول‏:‏ اذهبوا فادخلوا النار -قال‏:‏ ولو دخلوها ما ضرّتهم- فتخرج عليهم قوابص، فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيرجعون سراعًا، ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك، فيقول الرب عزّ وجل‏:‏ قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون، وعلى علمي خلقتكم، وإلى علمي تصيرون، ضميهم، فتأخذهم النار‏"‏‏.‏

الحديث الثامن‏:‏ عن أبي هريرة، رضي الله عنه‏:‏ قد تقدم روايته مندرجة مع رواية الأسود بن سريع، رضي الله عنه‏:‏ وفي الصحيحين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرَانه ويُمَجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء‏؟‏‏"‏‏.‏

وفي رواية قالوا‏:‏ يا رسول الله، أفرأيت من يموت صغيرا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا موسى بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، عن عطاء بن قُرَّة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما أعلم، شك موسى- قال‏:‏ ‏"‏ذراري المسلمين في الجنة، يكفلهم إبراهيم عليه السلام ‏"‏‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله، عز وجل، أنه قال‏:‏ ‏"‏إني خلقت عبادي حنفاء‏"‏ وفي رواية لغيره ‏"‏مسلمين‏"‏‏.‏

الحديث التاسع‏:‏ عن سمرة، رضي الله عنه‏:‏ رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه ‏"‏المستخرج على البخاري‏"‏ من حديث عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي، عن سَمُرَة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كل مولود يولد على الفطرة‏"‏ فناداه الناس‏:‏ يا رسول الله، وأولاد المشركين‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وأولاد المشركين‏"‏‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم الضَّبِّي، عن عيسى بن شعيب، عن عباد بن منصور، عن أبي رَجَاء، عن سمرة قال‏:‏ سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال‏:‏ ‏"‏هم خدم أهل الجنة‏"‏‏.‏

الحديث العاشر‏:‏ عن حسناء‏.‏ قال ‏[‏الإمام‏]‏ أحمد‏:‏ ‏[‏حدثنا إسحاق، يعني الأزرق‏]‏ ، أخبرنا رَوْح، حدثنا عوف، عن حسناء بنت معاوية من بني صريم قالت‏:‏ حدثني عمي قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، من في الجنة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة‏"‏‏.‏

فمن العلماء من ذهب إلى التوقف فيهم لهذا الحديث، ومنهم من جزم لهم بالجنة، لحديث سَمُرَة بن جندب في صحيح البخاري‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام، حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان، فقال له جبريل‏:‏ هذا إبراهيم، عليه السلام، وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين، قالوا‏:‏ يا رسول الله، وأولاد المشركين‏؟‏‏.‏ قال ‏"‏نعم، وأولاد المشركين‏"‏‏.‏ ومنهم من جزم لهم بالنار، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏هم مع آبائهم‏"‏‏.‏

ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العَرَصَات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرًا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة‏.‏

وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض‏.‏ وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، رحمه الله، عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في ‏"‏كتاب الاعتقاد‏"‏ وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ النقاد‏.‏

وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمَري بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان، ثم قال‏:‏ وأحاديث هذا الباب ليست قوية، ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرونها؛ لأن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل ولا ابتلاء، فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها‏؟‏‏!‏

والجواب عما قال‏:‏ أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح، كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يقوى بالصحيح والحسن‏.‏ وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط، أفادت الحجة عند الناظر فيها، وأما قوله‏:‏ ‏"‏إن الآخرة دار جزاء‏"‏‏.‏ فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة، من امتحان الأطفال، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ‏}‏ ‏[‏ن‏:‏ 42‏]‏ وقد ثبتت السنة في الصحاح وغيرها‏:‏ أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأما المنافق فلا يستطيع ذلك ويعود ظهره طبقًا واحدًا كلما أراد السجود خَرَّ لقفاه‏.‏

وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مرارًا، ويقول الله تعالى‏:‏ يا ابن آدم، ما أغدرك‏!‏ ثم يأذن له في دخول الجنة‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏"‏وكيف يكلفهم دخول النار، وليس ذلك في وسعهم‏؟‏‏"‏ فليس هذا بمانع من صحة الحديث، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم، وأيضًا فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار، فإنه يكون عليه بردًا وسلامًا، فهذا نظير ذلك، وأيضًا فإن الله تعالى ‏[‏قد‏]‏ أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضًا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفًا، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضًا شاق على النفوس جدًا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ فإذا تقرر هذا، فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم في الجنة، واحتجوا بحديث سَمُرَة أنه، عليه السلام رأى مع إبراهيم أولاد المسلمين وأولاد المشركين وبما تقدم في رواية أحمد عن حسناء عن عمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏والمولود في الجنة‏"‏‏.‏ وهذا استدلال صحيح، ولكن أحاديث الامتحان أخص منه‏.‏ فمن علم الله ‏[‏عز وجل‏]‏ منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة، ومن علم منه أنه لا يجيب، فأمره إلى الله تعالى، ويوم القيامة يكون في النار كما دلت عليه أحاديث الامتحان، ونقله الأشعري عن أهل السنة ‏[‏والجماعة‏]‏ ثم من هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة من يجعلهم مستقلين فيها، ومنهم من يجعلهم خدمًا لهم، كما جاء في حديث علي بن زيد، عن أنس، عند أبي داود الطيالسي وهو ضعيف، والله أعلم‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنهم مع آبائهم في النار، واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة بن حبيب، حدثني عبد الله بن أبى قيس مولى غُطَيْف، أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار فقالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هم تبع لآبائهم‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، بلا عمل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏"‏‏.‏

وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن حرب، عن محمد بن زياد الألهاني، سمعت عبد الله بن أبي قيس سمعت، عائشة تقول‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين قال ‏:‏ ‏"‏هم من آبائهم‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ فذراري المشركين‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هم مع آبائهم‏"‏ قلت‏:‏ بلا عمل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏"‏‏.‏

ورواه ‏[‏الإمام‏]‏ أحمد أيضا، عن وكيع، عن أبي عَقِيل يحيى بن المتوكل -وهو متروك- عن مولاته بُهَيَّة عن عائشة؛ أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أطفال المشركين فقال‏:‏ ‏"‏إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار‏"‏‏.‏

وقال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل بن غزوان، عن محمد بن عثمان، عن زاذان عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال‏:‏ ‏"‏هما في النار‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فلما رأى الكراهية في وجهها ‏[‏قال‏]‏ لو رأيت مكانهما لأبغضتهما‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ فولدي منك‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏قال‏:‏ ‏"‏في الجنة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏‏.‏

‏"‏إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ‏[‏أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏]‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وهذا حديث غريب؛ فإن محمد بن عثمان هذا مجهول الحال، وشيخه زاذان لم يدرك عليًا، والله أعلم‏.‏

وروى أبو داود من حديث ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن الشعبي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الوائدة والموءودة في النار‏"‏‏.‏ ثم قال الشعبي‏:‏ حدثني به علقمة، عن أبي وائل، عن ابن مسعود‏.‏

وقد رواه جماعة عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن سلمة بن قيس الأشجعي قال‏:‏ أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا‏:‏ إن أمنا ماتت في الجاهلية، وكانت تقري الضيف وتصل الرحم، وأنها وأدت أختًا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏الوائدة والموءودة في النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام، فتسلم‏"‏‏.‏ وهذا إسناد حسن‏.‏

والقول الثالث‏:‏ التوقف فيهم، واعتمدوا على قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏"‏‏.‏ وهو في الصحيحين من حديث جعفر بن أبي إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال ‏:‏ الله أعلم بما كانوا عاملين‏"‏ وكذلك هو في الصحيحين، من حديث الزهري، عن عطاء بن يزيد، وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه سئل عن أطفال المشركين، فقال‏:‏ ‏"‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏"‏‏.‏

ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف‏.‏ وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة؛ لأن الأعراف ليس دار قرار، ومآل أهلها إلى الجنة كما تقدم تقرير ذلك في ‏"‏سورة الأعراف‏"‏، والله أعلم‏.‏

فصل ‏[‏في الخلاف في أولاد المشركين‏]‏

وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفرّاء الحنبلي، عن الإمام أحمد أنه قال‏:‏ لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة‏.‏ وهذا هو المشهور بين الناس، وهو الذي نقطع به إن شاء الله، عز وجل‏.‏ فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر، عن بعض العلماء‏:‏ أنهم توقفوا في ذلك، وأن الولدان كلهم تحت شيئة الله، عز وجل‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل الفقه والحديث منهم‏:‏ حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه وغيرهم قالوا‏:‏ وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر، وما أورده من الأحاديث في ذلك، وعلى ذلك أكثر أصحابه‏.‏ وليس عن مالك فيه شيء منصوص، إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة انتهى كلامه وهو غريب جدًا‏.‏ وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب ‏"‏التذكرة‏"‏ نحو ذلك أيضًا، والله أعلم‏.‏

وقد ذكروا في ذلك حديث عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت‏:‏ دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت‏:‏ يا رسول الله، طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه، فقال‏:‏ ‏"‏أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم‏"‏‏.‏ رواه أحمد مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه‏.‏

ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع، كره جماعة من العلماء الكلام فيها، روي ذلك عن ابن عباس، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن الحنفية وغيرهم‏.‏ وأخرج ابن حبان في صحيحه، عن جرير بن حازم سمعت أبا رجاء العُطَاردي، سمعت ابن عباس وهو على المنبر يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يزال أمر هذه الأمة مواتيًا -أو مقاربًا- ما لم يتكلموا في الوِلْدان والقَدَر‏"‏‏.‏ قال ابن حبان‏:‏ يعني أطفال المشركين‏.‏

وهكذا رواه أبو بكر البزار من طريق جرير بن حازم، به‏.‏ ثم قال‏:‏ وقد رواه جماعة عن أبي رجاء، عن ابن عباس موقوفًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا‏}‏

اختلف القراء في قراءة قوله‏:‏ ‏{‏أَمَرْنَا‏}‏ فالمشهور قراءة التخفيف، واختلف المفسرون في معناها، فقيل‏:‏ معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرًا قدريًا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏، فإن الله لا يأمر بالفحشاء، قالوا‏:‏ معناه‏:‏ أنه سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب‏.‏

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة‏.‏ رواه ابن جريج عن ابن عباس، وقاله سعيد بن جبير أيضًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ وقد يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء‏.‏

قلت‏:‏ إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ ‏"‏أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا‏"‏ قال علي بن طلحة، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا‏}‏ يقول‏:‏ سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 123‏]‏، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس‏.‏

وقال العَوْفِي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا‏}‏ يقول‏:‏ أكثرنا عددهم، وكذا قال عكرمة، والحسن، والضحاك، وقتادة، وعن مالك عن الزهري‏:‏ ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏‏:‏ أكثرنا‏.‏

وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال‏:‏ حدثنا روح بن عبادة، حدثنا أبو نعامة العدوي، عن مسلم بن بُدَيْل، عن إياس بن زهير، عن سُوَيْد بن هُبَيْرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة‏"‏‏.‏

قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، في كتابه ‏"‏الغريب‏"‏‏:‏ المأمورة‏:‏ كثيرة النسل‏.‏ والسّكة‏:‏ الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة‏:‏ من التأبير، وقال بعضهم‏:‏ إنما جاء هذا متناسبًا كقوله‏:‏ ‏"‏مأزورات غير مأجورات‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا‏}‏

يقول تعالى منذرًا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد أهلك أممًا من المكذبين للرسل من بعد نوح، ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام، كما قاله ابن عباس‏:‏ كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام‏.‏

ومعناه‏:‏ أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وأحرى‏.‏

وقوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ هو عالم بجميع أعمالهم، خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية ‏[‏سبحانه وتعالى‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 - 19‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا‏}‏

يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له، بل إنما يحصل لمن أراد الله ما يشاء‏.‏

وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات فإنه قال‏:‏ ‏{‏عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا‏}‏ أي‏:‏ في الآخرة ‏{‏يَصْلاهَا‏}‏ أي‏:‏ يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه ‏{‏مَذْمُومًا‏}‏ أي‏:‏ في حال كونه مذمومًا على سوء تصرفه وصنيعه إذ اختار الفاني على الباقي ‏{‏مَدْحُورًا‏}‏‏:‏ مبعدًا مقصيًا حقيرًا ذليلا مهانًا‏.‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين، حدثنا ذويد ، عن أبي إسحاق، عن زُرْعَة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ‏}‏ أي‏:‏ أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم والسرور ‏{‏وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا‏}‏ أي‏:‏ طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ أي‏:‏ وقلبه مؤمن، أي‏:‏ مصدق بالثواب والجزاء ‏{‏فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20 - 21‏]‏

‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا‏}‏

‏[‏يقول تعالى‏:‏ ‏{‏كُلا‏}‏ أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة، نمدهم فيما هم فيه ‏{‏مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور، فيعطي كلا ما يستحقه من الشقاوة والسعادة ولا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى، ولا مغير لما أراد؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏}‏ أي‏:‏ ممنوعا، أي‏:‏ لا يمنعه أحد ولا يرده راد‏.‏

قال قتادة‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏}‏ أي‏:‏ منقوصًا‏.‏

وقال الحسن وابن جريج وابن زيد‏:‏ ممنوعًا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ في الدنيا، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك، والحسن والقبيح وبين ذلك، ومن يموت صغيرًا، ومن يعمر حتى يبقى شيخًا كبيرًا، وبين ذلك ‏{‏وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا‏}‏ أي‏:‏ ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا؛ فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون في الدرجات العُلَى ونعيمها وسرورها، ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض‏.‏ وفي الصحيحين‏:‏ ‏"‏إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء‏"‏ ؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا‏}‏‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ والمراد المكلفون من الأمة، لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكًا ‏{‏فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا‏}‏ على إشراكك ‏{‏مَخْذُولا‏}‏ لأن الرب تعالى لا ينصرك، بل يكلك إلى الذي عبدت معه، وهو لا يملك لك ضرًا ولا نفعًا؛ لأن مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له‏.‏ وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا بشير بن سلمان، عن سَيَّار أبي الحكم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله -هو ابن مسعود -قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى، إما أجَلٌ ‏[‏عاجل‏]‏ وإما غنى عاجل‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود، والترمذي من حديث بشير بن سلمان، به، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح غريب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23 - 24‏]‏

‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا‏}‏

يقول تعالى آمرًا بعبادته وحده لا شريك له؛ فإن القضاء هاهنا بمعنى الأمر‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَقَضَى‏}‏ يعني‏:‏ وصى، وكذا قرأ أبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، والضحاك بن مزاحم‏:‏ ‏"‏ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏"‏ ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين فقال‏:‏ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ أي‏:‏ وأمر بالوالدين إحسانًا، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ‏}‏ أي‏:‏ لا تسمعهما قولا سيئًا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ ‏{‏وَلا تَنْهَرْهُمَا‏}‏ أي‏:‏ ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَنْهَرْهُمَا‏}‏ أي‏:‏ لا تنفض يدك على والديك‏.‏

ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا‏}‏ أي‏:‏ لينًا طيبًا حسنًا بتأدب وتوقير وتعظيم‏.‏

‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ‏}‏ أي‏:‏ تواضع لهما بفعلك ‏{‏وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا‏}‏ أي‏:‏ في كبرهما وعند وفاتهما ‏{‏كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا‏}‏قال ابن عباس‏:‏ ثم أنزل الله ‏[‏تعالى‏]‏‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏‏.‏

وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال‏:‏ ‏"‏آمين آمين آمين‏"‏‏:‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله، علام أمنت‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أتاني جبريل فقال‏:‏ يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقل‏:‏ آمين‏.‏ فقلت‏:‏ آمين‏.‏ ثم قال‏:‏ رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل‏:‏ آمين‏.‏ فقلت آمين‏.‏ ثم قال‏:‏ رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل‏:‏ آمين‏.‏ فقلت‏:‏ آمين‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا هُشَيْم، حدثنا علي بن زيد، أخبرنا زُرَارَة بن أَوْفَى، عن مالك بن الحارث -رجل منهم -أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من ضَمَّ يتيمًا بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه، وجبت له الجنة البتة، ومن أعتق امرأ مسلمًا كان فَكَاكه من النار، يجزى بكل عضو منه عضوًا منه‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت علي بن زيد -فذكر معناه، إلا أنه قال‏:‏ عن رجل من قومه يقال له‏:‏ مالك أو ابن مالك، وزاد‏:‏ ‏"‏ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار، فأبعده الله‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا علي بن زيد، عن زرارة بن أوفى عن مالك بن عمرو القشيري‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار، مكان كل عَظْم من عظامه مُحَرّره بعظم من عظامه، ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز وجل، ومن ضم يتيمًا بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله، وجبت له الجنة‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا حدثنا شعبة، عن قتادة سمعت زرارة بن أوفى يحدث عن أبي بن مالك القشيري قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك، فأبعده الله وأسحقه‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة به وفيه زيادات أخر‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، حدثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة‏"‏‏.‏

صحيح من هذا الوجه، ولم يخرجه سوى مسلم، من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال، عن سهيل، به‏.‏

حديث آخر‏:‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا رِبعيّ بن إبراهيم -قال أحمد‏:‏ وهو أخو إسماعيل بن عُلَيَّة، وكان يفضل على أخيه -عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ ‏!‏ ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، فانسلخ قبل يغفر له‏!‏ ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة‏"‏ قال ربعي‏:‏ لا أعلمه إلا قال‏:‏ ‏"‏أحدهما‏"‏‏.‏ ورواه الترمذي، عن أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي، عن ربعي بن إبراهيم، ثم قال‏:‏ غريب من هذا الوجه‏.‏

حديث آخر‏:‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل، حدثنا أسيد بن علي، عن أبيه، علي بن عبيد، عن أبي أسيد وهو مالك بن ربيعة الساعدي، قال‏:‏ بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل من الأنصار فقال‏:‏ يا رسول الله، هل بقي عليّ من برّ أبويّ شيء بعد موتهما أبرهما به‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، خصال أربع‏:‏ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك بعد موتهما من برهما‏"‏‏.‏

ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث عبد الرحمن بن سليمان -وهو ابن الغسيل -به‏.‏

حديث آخر‏:‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، أخبرني محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن معاوية بن جاهمة السلمي؛ أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، أردت الغزو، وجئتك أستشيرك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏فهل لك من أم‏؟‏‏"‏ قال‏.‏

نعم‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏الزمها‏.‏ فإن الجنة عند رجليها ثم الثانية، ثم الثالثة في مقاعد شتى، كمثل هذا القول‏.‏

ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث ابن جريج، به‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا ابن عياش، عن بَحِير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معد يكرب الكندي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله يوصيكم بآبائكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب‏"‏‏.‏

وقد أخرجه ابن ماجه، من حديث ‏[‏عبد الله‏]‏ بن عياش، به‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس، حدثنا أبو عَوَانة، عن الأشعث بن سليم، عن أبيه، عن رجل من بني يربوع قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول‏:‏ ‏"‏يد المعطي ‏[‏العليا‏]‏ أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده‏:‏ حدثنا إبراهيم ابن المستمر العُرُوقي، حدثنا عمرو بن سفيان، حدثنا الحسن بن أبي جعفر، عن ليث بن أبي سليم، عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه؛ أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل أديت حقها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ولا بزفرة واحدة‏"‏ أو كما قال‏.‏ ثم قال البزار‏:‏ لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه‏.‏

قلت‏:‏ والحسن بن أبي جعفر ضعيف، والله أعلم‏.‏